الهدف والوسيلة
قد يتفق الناس في الأهداف والأغراض. مادام الهدف سليماً وخيراً. ولكنهم يختلفون في الوسائل الموصلة إلي الأهداف.
فما هي أسباب اختلاف الوسائل إذن؟
سببها اختلاف الفكر والعقل. فكل شخص له فكره الخاص وأسلوبه ونظرته الخاصة الي الأمور. كذلك تختلف الأفكار من جهة درجة الذكاء. ومدي الحكم علي الوسيلة بالنجاح أو الفشل. مع تقدير حساب ردود الفعل لكل وسيلة..
ويختلف الناس في الطباع ونوع النفسية. وكل منهم يفكر في الوسيلة التي تتفق وطبعه ونفسيته. والتي تتفق أيضا مع نوع البيئة التي يعيش فيها.
لذلك قد نجد أناسا طيبين ويريدون الخير. ومع ذلك فوسائلهم مختلفة.. كل واحد له طريقته وأسلوبه. وله منهجه الخاص في الوصول الي الغرض.
***
ولهذا كثيراً ما يحدث خلاف في العمل الجماعي في أية هيئة من الهيئات. سواء اجتماعية أو دينية. أو حتي في الهيئات التشريعية كالبرلمانات..
أحيانا يوجد تنوع. وأحيانا يوجد اختلاف أو خلاف.. الكل يريدون الخير. ولكن فهم كل منهم للخير. وأسلوب الوصول إليه. هو مركز الاختلاف. ولا أحد يعارض في تنوع الآراء وتعددها. فهذا دليل علي ثراء الفكر. وثراء الخبرة. أما الخلاف فكثيرا ما يسبب انقسامات وصراعات وتحزبات. وربما يتحول من الموضوعية إلي خلاف شخصي. وربما إلي خصومة أو عداوة!!
***
ففي موضوع الإصلاح مثلا:
الكل يحب أن تنصلح الأمور. الهدف اذن واحد. فمن من الناس يقف ضد الاصلاح. ولكن الوسائل تتعدد وتختلف:
البعض يري السرعة في الإصلاح. ويقول "خير البر عاجله". والبعض يري التروي والتدرج. بوضع اساس سليم. والتنفيذ خطوة خطوة..
هناك من ينادي بأن الاصلاح يأتي بثورة شاملة. ومن يري أنه يأتي عن طريق الحكمة والتفكير والتفاهم. مع الصبر.. وعكس ذلك من يقول "كفانا صبرا. الصبر هو هدنة مع الجو الخاطئ".
البعض يري أن الاصلاح لا يتم إلا بالعنف والتشدد. وقد يسلك في ذلك بأسلوب التجريح والتشهير ويقول إن المخطئين لا يصلح معهم سوي الشدة والبتر.
بينما يسلك غيرهم في الاصلاح بأسلوب هادئ دعامته الدراسة للحاضر والمستقبل..
***
لذلك إن اشتركت مع أحد في عمل. أو من أجل خير ما. لا يكفي أن يكون مشتركا معك في الهدف. وإنما ينبغي أن يكون مشتركا معك في الوسيلة أيضا
لئلا تكون طريقته في تنفيذ الغرض المشترك غير طريقتك. وأسلوبه في التعامل مع الأمور ومع الأشخاص غير أسلوبك. وهكذا تختلفان معا. وربما يسبب لك مشاكل باعتباركما شريكين في عمل واحد..
***
العجيب في مسألة الوسيلة هو المبدأ الميكافيلي. الذي به:
يظن البعض أن الهدف الطيب يبرر الوسيلة الخاطئة!!
وهذا ما كان ينادي به ميكافيلي أن "الغاية تبرر الواسطة"..
* فإنسان مثلا باسم "الغيرة المقدسة علي الحق والواجب" يثور ويصيح. ويشتم ويوبخ. وربما يعتدي علي غيره أو يرفع قضايا. وفي كل ذلك لا يوبخه ضميره بل يشجعه علي مزيد من العنف. ولمثل هذا نقول:
إن الحماس المقدس للحق. تناسبه أيضا وسيلة مقدسة..
* وبالمثل أب يقسو جدا علي ابنه. حتي يعقده نفسيا. ويحتج بغرض مقدس هو تربية ابنه!! إن الغرض سليم "التربية" ولكن الوسيلة خاطئة
* أو زوج يحبس زوجته في البيت. ويقيد كل تحركاتها وكل تعاملاتها. بحجة الحفاظ عليها! هذا أيضا وسيلته خاطئة. فيها جهل وأنانية..
* أو أم - دون أن يطلب ابنها منها - تتدخل في حياته الزوجية. بهدف توجيه النصح له. ولكن بوسيلة تؤدي الي ضعف شخصيته وتفكك أسرته..!
***
وكثيرا ما ضيع الناس أنفسهم وعلاقاتهم بالطريقة أو الوسيلة الخاطئة
مثال ذلك شخص يسعي إلي مصالحة غيره. هدف سليم بلا شك. ويري أن الوسيلة هي العتاب. وبخطأ وسيلته في العتاب يفقد صديقه تماما!!
ففي العتاب يعيد الأوجاع والجروح القديمة. ويضغط عليها بأسلوب يتعب الطرف الآخر. مظهرا له أخطاءه وسوء تصرفه. وهكذا يخرج من العتاب وقد ساءت العلاقة عن ذي قبل. لأن العتاب كان بوسيلة خاطئة..
بعكس إنسان آخر. يستطيع بالعتاب أن يكسب الموقف. بل يجعل الطرف الآخر يتفهم الموضوع بأسلوب يزيل التوتر الذي حدث بينهما. ويخرج الطرفان صديقين كأن لم يحدث بينهما شئ.. إنها الوسيلة تنفع أو تضر..
العتاب هو العتاب. ولكن أسلوبه عند الواحد مقبول بوسيلة مجدية. وعند الآخر بوسيلة متعبة ومؤذية. وتأتي بعكس المطلوب..
انسان يعاتب بحب وعشم. وآخر يعاتب بسخط وهجوم. الأول يريد أن يصالح. والثاني يريد أن يثبت للطرف الآخر أنه كان مخطئا.
***
نفس الوضع بالنسبة إلي الخطاة والمخطئين
كلنا نكره الخطأ. ونأخذ من أصحابه موقفا معارضا. هنا الغرض واحد. ولكن الوسائل تختلف من واحد إلي آخر..
فالبعض يبعد عن المخطئين. وينعزل عنهم ولا يختلط بهم.
والبعض يأخذ منهم موقف المقاومة. ويحاسبهم علي كل خطأ يصدر منهم. ولا يترك الأخطاء تمر بسهولة أو بدون مؤاخذة...
والبعض الثالث يحاول أن يصلح أولئك ويقودهم الي التوبة ويكسبهم ربما بالحب والصبر. أو بالمواجهة والاقناع. المهم أن يوصلهم إلي الله وإلي الطريق السليم. ويربح نفوسهم فلا تهلكها الضلالة..
***
نقطة اخري وهي تربية الأبناء
كل الناس يريدون تربية أبنائهم تربية سليمة. إنه هدف يتفق فيه الجميع. ولكنهم يختلفون في أسلوب التربية. أي في الوسيلة
* فالبعض يمنحون أولادهم الحرية الكاملة. كما يحدث في كثير من بلاد الغرب. وحينما يكبر الأولاد لا يصبح لآبائهم وأمهاتهم أية سلطة عليهم ويبررون أسلوبهم في التربية بأنهم يريدون أن تكون للابن شخصيته القوية المستقلة التي لا تقع تحت ضغوط..
* هناك أسلوب آخر يلجأ إليه آباء في تربية أولادهم. وهو التشديد الكامل. فلا يخرج الي حفلة معينة إلا بإذن. ولا يصاحب أحدا الا تحت رقابة. ولا ينضم إلي أي ناد أو إلي أية أنشطة إلا بموافقة. وهذا التضييق يوجد عنده كبتا تكون له ردود فعل سيئة في المستقبل.
* وهناك طريق في التربية وسط بين الأسلوبين السابقين. لا هو بالحرية التي فيها تسيب. ولا هو بالتشد يد الذي فيه تقييد. إنه:
أسلوب أب يصادق ابنه. ويشرح ويعلم. ويقنع ويحاور
ولا شك أن الإقناع - ولو أنه يأخذ وقتا وجهدا - إلا انه يوجد حافزا في الداخل. أفضل بكثير من الأوامر والنواهي. التي هي مجرد ضغوط من الخارج نابعة من السطلة وليس من الصداقة..
***
نتناول موضوع الانضمام إلي مؤسسات أو مجتمعات أو أية هيئات:
كثيرون ينضمون. أو يبذلون جهدا للإنضمام. البعض يريد أن يصلح الهيئة بتولي السلطة فيها. والبعض يقصد العمل الايجابي البناء. والبعض يريد الاصلاح الداخلي للهيئة بالقدوة الصالحة. بينما آخرون يهدفون إلي إصلاحها بأن يكونوا داخلها هيئة مناوئة..
وفي كل ذلك تختلف وجهة النظر بين الغرض والوسيلة: فعند البعض الغرض هو العضوية. بينما يري البعض أن العضوية هي الوسيلة. أما الغرض فهو الصالح العام..
***
علي أن هناك نقطة هامة في موضوعنا وهي:
كثيرا ما تتحول الوسيلة إلي هدف!!
* إنسان يقول : لو أعطاني الله مالاً. لكنت أعمل بهذا المال أعمال خير كثيرة "يذكرها بخياله الخصب". وهنا يكون عمل الخير هو الهدف. والمال هو الوسيلة. ولكن بمرور الوقت يتحول المال الي هدف. والسعي وراء المال هو الوسيلة. وتتعدد وسائل جمع المال وتشغل ذهنه.. وأين الهدف الأصلي "عمل الخير"؟ لقد اختفي تماما!!
* وبالمثل انسان يريد أن يحصل علي منصب كبير ليخدم بلده.. فخدمة البلد هي الهدف الذي يجاهر به في سعيه وراء المنصب. وما المنصب سوي الوسيلة. ولكن في هذا السعي يتحول المنصب إلي هدف.
وتتعدد الوسائل الموصلة إليه. صالحة كانت أو طالحة. شرعية أو غير شرعية. أما الهدف الأصلي - خدمة البلد - فيكون قد اختفي..!!
حقاً.. ما أكثر ما تختفي الأهداف السامية. وتحل محلها الوسائل!
***
كثير من الشبان والشابات يقولون إن هدفهم هو السعادة ويرون أن الوسيلة هي الزواج والاستقرار في بيت. وكل هذا هو تفكير سليم. غير أن الزواج يتحول عندهم إلي هدف ووسيلته في فكرهم هي الحب. وقد يفسرون الحب بتلك العاطفة المتأججة غير المنضبطة.
ويسيرون في تلك العاطفة. فيتحول هدفهم الي المتعة الجسدية. وفي المتعة ينسون أنفسهم. وينسون أنها قد لا تؤدي الي الزواج. وإنما قد تؤدي أحيانا الي الضياع. وبمرور الوقت قد ينتهي التمسك بهذه المتعة عند أحد الطرفين.: إما عن طريق الملل أو بيقظة من العقل أو الضمير. أو بالاتجاه الي ناحية اخري.. وفي كل ذلك يكون قد فتر ثم اختفي الهدف الأول. ويقف الطرفان وقد فقدا الهدف والوسيلة!
***
في الحياة الروحية. الهدف الوحيد هو الله.. وما كل الفضائل سوي وسائل توصل إلي الله وإلي ملكوته الأبدي
نعم. ما الصلاة والصوم. والترتيل والتسبيح. و القراءة الروحية والتأمل.. سوي وسائل توصل إلي الله. وليست أهدافاً في ذاتها.. ويخطئ من يحولها إلي أهداف مستقلة عن الله..!
فمثلا. إنسان يقرأ في كتاب الله وفي الكتب الروحية. والمفروض أن هذه القراءة توصله إلي محبة الله وطاعته. ولكن ما أسهل أن تتحول القراءة عنده الي هدف. فالمهم أن يقرأ - ولو بدون تأمل. وبدون تداريب روحية - وقد تتحول القراءة عنده إلي أهداف أخري!!
قد يقرأ الكتب الدينية لكي يكون عالما. أو لكي يكون معلماً. ولكي يبدو كثير المعرفة واسع الإطلاع. يجيد الكلام في أي موضوع يتحدث فيه أو يسألونه عنه. وهنا لا يكون الله هو هدفه..
ويتحول الهدف من الله. لتصبح ذاته هي الهدف!
***
لهذا ينبغي أن يراجع الإنسان هدفه. لئلا يضيع هدفه منه..
وينبغي أن يتحقق من أن الوسيلة التي يتبعها تقوده إلي هدفه..
كذلك عليه أن يتأكد أن هدفه سليم وروحي. وأنه لم ينحرف عنه إلي هدف آخر. وأنه يستخدم الوسائل العملية التي تحقق له هدفه السليم. بحيث تبقي هذه الرسائل مجرد وسائط. ولا تتحول بمرور الوقت إلي أهداف..!!
وليكن الانسان صريحاً مع نفسه. وليسألها في جدية:
هل أمكن أن يوصلني صومي إلي ضبط النفس. وإلي رفع مستواي الروحي عن ذي قبل؟ وهل أسلك فيه بطريقة روحية تناسبه؟
هل قراءاتي الدينية تترك تأثيرا في سلوكي الشخصي. وتتحول من قراءة إلي حياة؟ أم هي لمجرد المعرفة. وقد فقدت هدفها؟!
ويسأل أسئلة مشابهة عن باقي الوسائط الروحية..
***
أخيرا اختم هذا المقال ببعض أسئلة لابد منها:
ماذا نقول عن الذين يعيشون بدون هدف ثابت. تحققه وسائط عملية؟ وماذا عن الذين يفقدون هدفهم في الطريق؟
ماذا عن الذين يحيون حياة عشوائية. غير محددة المعالم؟ لا يهدفون منها إلي شئ. سوي أن يقودهم اليوم إلي الغد! ويقودهم الغد إلي حيث لا يعلمون!!