منذ صدورها قبل سنتين أثارت رواية "شيفرة دافنشي" للكاتب دان براون جدلاً واسعاً، وحظيت بشهرة. وقد تجسد ذلك في ترجمة الرواية إلى أكثر من خمسين لغة، وبيع من طبعتها الإنكليزية الأصلية أكثر من عشرة ملايين نسخة.
هذا الجدل حول الرواية امتد إلى العالم العربي بعد صدور الترجمة العربية بتوقيع سمة محمد عبد ربه عن الدار العربية للعلوم (بيروت - 2004)، فقد أوعز "المركز الكاثوليكي للإعلام" في بيروت إلى الجهات المعنية بمصادرة نسخ الرواية ومنعها من التداول، وهو ما منح الرواية مزيداً من الاهتمام.
الرواية تطرح قضايا حساسة، تتعلق بثوابت الدين المسيحي، ومسلماته التي رسخت في الأذهان عبر القرون، وما يتفرع عن ذلك من مكانة الأنثى في هذه الديانة وفي الديانات الوثنية التي كانت تنظر إلى الأنثى بعين القداسة غير ان المصالح والتوازنات السياسية جعلتها مهمشة، مضطهدة كما ترى الرواية.
طرفان أساسيان يتصارعان في صفحات الرواية. الطرف الأول هو جمعية سيون الدينية وهي جمعية أوروبية سرية حقيقية - بحسب تأكيد الكاتب في مستهل الرواية - تأسست في القدس عام 1099 ، على يد ملك فرنسي يدعى غودفروا دو بويون بعد احتلاله المدينة مباشرة، وفي عام 1975 اكتشفت "مكتبة باريس الوطنية" مخطوطات عرفت باسم "الوثائق السرية" ذكرت فيها أسماء أعضاء انتموا إليها، ومن ضمنهم اسحق نيوتن، وساندرو بوتيشلي، وفيكتور هيغو، وليوناردو دافنشي، وحديثاً جان كوكتو، أما الطرف الثاني فهو المجموعة الأسقفية الكاثوليكية المتشددة التي تعرف باسم أوبوس داي (عمل الرب) التي يترأسها الأسقف مانويل ارينغاروزا، والتي تأسست في أسبانيا العام 1928 ودعت إلى القيم الكاثوليكية المحافظة، والى التضحية بدعوة النفس إلى العفة، والطهارة، والتكفير عن الخطايا من خلال التعذيب الجسدي، وأجاز بابا الفاتيكان بشكل رسمي كل ممارسات هذه المجموعة في العام 1982 ، أما محور الصراع فقائم على أن الأولى ترى المسيح شخصاً من لحم ودم وتنزع عنه صفة القداسة، فيما ترى الثانية في المسيح ابناً للرب، وتحيطه بالتالي بهالة من القداسة، ولا بد لمثل هذه المسائل من ان تثير حفيظة الكهان.
جاك سونيير القيّم على متحف اللوفر الباريسي ينتمي إلى جمعية سيون وهو الوصي الوحيد على أحد أقوى واعظم الأسرار التي حفظت حتى الآن. يتعرض للاغتيال مع ثلاثة آخرين من قبل الأبرص سيلاس الذي ينتمي الى أوبوس داي. تبدأ الشرطة القضائية الفرنسية برئاسة النقيب بيزو فاش في التحقيق، وخلال أربع وعشرين ساعة، هو زمن الرواية الفعلي، تقع الأحداث المتسارعة من اجل الكشف عن القاتل، وهو ما يقود الراوي إلى سرد الأحداث التي تجرى في الوقت نفسه بصورة مفصولة، فالراوي ينقل الحدث من أكثر من موقع بمنتهى التشويق وبذكاء، ، لتسهم هذه الخطوط في صوغ رواية متماسكة طويلة نسبياً (الطبعة العربية 500 صفحة).
يتم الاستعانة بالعالم الأميركي روبرت لانغدون للكشف عن ملابسات الجريمة، وهو أستاذ علم الرموز الدينية في جامعة هارفرد. أمضى حياته في اكتشاف الروابط الداخلية الخفية بين الرموز المختلفة، والأيديولوجيات وكان متواجداً في باريس لإلقاء محاضرة، كما تشارك حفيدة سونيير صوفي نوفو الخبيرة في فك الشيفرات للوصول إلى القاتل. هذه الاستعانة فرضتها الوضعية الغريبة لجثة القتيل، فالشكل الذي وجد فيه يوحي بأشهر رسم لليوناردو دافنشي وهو "الرجل الفيتروفي" مع كتابات ورموز معقدة رسمها بدمه، قبل موته، منها النجمة الخماسية التي يعتبرها لانغدون إحدى اقدم الرموز على وجه الأرض، وقد استخدمت منذ أربعة آلاف سنة قبل ميلاد المسيح، وهي دلالة على عبادة الطبيعة، وترمز في أدق تفسير لمعناها إلى فينوس آلهة الجمال والحب الأنثوي.
كل هذه الأفكار ما زالت تمتلك أهمية لدى جمعية سيون التي ترى ان الكنيسة طردت الأنثى المقدسة من الدين الحديث، وحولت الآلهة الأنثى إلى شيطان، وهذا التقديس للأنثى يتجسد في شـــعارها "زهرة الزنبق" أي (موناليزا) اللوحة الأشهر لأحد أكثر أعضاء الجمعية شهرة وهو دافنشي الذي كان يؤمن بأن الروح البشرية لا يمكن ان ترتقي إلا بوجود العناصر المذكرة والمؤنثة، وما لوحته هذه سوى التحام بين الاثنين، كما يقول لانغدون، الذي يرى أن التسمية أيضاً تتكون منهما أي (آمون) إله الخصوبة الذكرية، و(إيزيس) آلهة الخصوبة الأنثوية وهما كلمة مدموجة تدل الى الاتحاد المقدس بين الذكر والأنثى، وهنا سر ابتسامة موناليزا.
يقول التفسير الذي يسوقه الروائي لتحليل هذه الأفكار، على لسان بطليه لانغدون، ولاي تيبينغ إن فلسفة الأخوية التي كان ينتمي إليها القتيل جاك سونيير ترتكز على معتقد يقول ان هناك رجالاً متنفذين، وأقوياء في الكنيسة المسيحية الأولى خدعوا العالم من خلال نشر أكاذيب حطت من شأن المرأة، إذ تعتقد الأخوية ان الإمبراطور الروماني قسطنطين وسلالته نجحوا في تحويل العالم من الوثنية المؤنثة إلى المسيحية الذكورية، عبر إطلاق حملة استمرت لثلاثة قرون استخدمت فيها طرقاً ووسائل مرعبة للقضاء على الوثنية وحولت الأنثى المقدسة إلى شيطان.
وقد قامت محاكم التفتيش الكاثوليكية بنشر كتاب، عرف على انه اكثر منشور دموي على مدى التاريخ البشري، وهو مالوس مالفيكاروم أو "مطرقة الساحرات" الذي لقن العالم فكرة خطر النساء الملحدات ذوات الأفكار المتحررة وحرقت خمسة ملايين امرأة من العالمات والكاهنات والغجريات والمتصوفات، ومحبات الطبيعة وجامعات الأعشاب الطبية.
في الحيثيات التاريخية ترى الرواية ان غودفروا أسس جمعية "سيون"، وكان يحتفظ في عائلته بسر عظيم منذ زمن المسيح، وهدف الجمعية هو صون السر بعد موته، وقد سمع أعضاء الجمعية بوجود وثائق سرية مدفونة تحت أنقاض معبد هيرودوت والذي كان مبنياً بدوره على أنقاض هيكل سليمان، فسعوا إلى الحصول عليها وحفظها، ولتحقيق هذا الهدف قامت الجمعية بإنشاء فرقة عسكرية عرفت باسم "فرسان الهيكل".
وخلال تسع سنوات قضاها الفرسان التسع في الحفر حصلوا على الوثائق ثم اخذوا الكنز وسافروا به إلى أوروبا، وقام البابا اينوسنت الثاني بإصدار أمر رسمي بابوي بمنح الفرسان سلطة لا محدودة، ومع حلول عام 1300. تحول "فرسان الهيكل" إلى قوة عظيمة فقرر البابا كليمنت الخامس وضع حد لهم، فقام بالتنسيق مع ملك فرنسا فيليب الرابع بعملية لسحقهم، وبالفعل في يوم الجمعة 13 من شهر أكتوبر عام 1307م. اعدم الكثير منهم لكن الوثائق السرية التي عرفت باسم "الكأس المقدسة" بقيت في حوزة القلائل المحاطين بسرية تامة، وهو سر يشار له في لوحة "سيدة الصخور" و"العشاء الأخير" لدافنشي.
وفي الرواية ان الوثائق التي تثبت بعض هذه الوقائع كانت هدفاً دائماً للكنيسة، والرواية تتخذ من هذه الوثائق ذريعة لتقديم نص بوليسي، ولعل شهرة الرواية أتت من طرحها لهذه الأفكار التي تهز المسلمات.
وخبرة الكاتب هنا هو انه يقدم خلطة تمزج بين التاريخي والسياسي والديني مع تركيز على الرموز، والأساطير، واللوحات الفنية، والألغاز، والأسرار... وهي أقرب ما تكون إلى "الدمية الروسية" التي تتضمن أشكالاً مماثلة لها، وأصغر منها حجماً، في متوالية، تمتد أحياناً، إلى ما هو متناهٍ في الصغر.
هـــذا التـــخييل الروائي أثار لغطاً، وطرح من جديد قضية الخلط بين الحقيقة والخيال في الفن.